هل يمكن أن يلتقي العالمين الإسلامي والغربي، ويتفقا ويتعاونا معا رغم كل ما لديهما من تعارض في الثقافة؟ إجابة هذا السؤال - حسبما اعتقد بقوة – هي: نعم، ولكن إذا تم تجنب مشكلة أساسية، بالغة الخطورة، وهي، الخطأ في القياس.
والمقصود هنا بالخطأ في القياس، هو أن تحدد صحة أو خطأ سلوك "الآخر" وفقا لما تؤمن أنت به من معايير للخطأ والثواب.
على سبيل المثال، حين ينتقد شاب مسلم الغربيون لأنهم يشربون الخمور، ويقول أنها محرمة ولا يجب أن يشربوها. هل استخدم المقياس الصحيح في هذه الحالة؟
بالطبع لا، لأنه اخذ بالمعيار الذي يحكمه هو كمسلم، وطبقه على شخص آخر لا يشاركه في معتقداته، وبالتالي لا يقع على هذا الشخص واجب الالتزام بما يعتقد به ذلك المسلم.
في احد المرات كنت أتحدث مع فتاة غربية (غير مسلمة)، وكانت تنتقد المسلمين وترى أنهم مخطئين، لأنهم منغلقين، ولا يسمحون بإقامة علاقات جنسية قبل الزواج.
هذه الفتاة استخدمت أيضا مقياسها الخاص، وبدأت تطبقه على من لا يؤمنون به، وبالتالي رأتهم مخطئين.
هذه التقييمات الخاطئة لسلوك الآخر (وما أكثرها)، والانتقادات التي تتبعها، والمحاولات التي تتم "لإثنائه عن خطاياه" بطريقة أو بأخرى، هذا ما يخلق الصراعات والتوتر المستمر، وهو ما يجعل كلا الطرفين متوجس من الآخر، ويرسخ الاعتقاد بأننا نمثل تهديدا لبعضنا البعض.
وفي الحقيقة كلانا يخترق قاعدة جوهرية في معتقداته حين يفعل ذلك، ففي القرآن الكريم تأكيد على انه لا إكراه في الدين، وفي الغرب تأكيد مستمرة على حماية حرية الاعتقاد.
ويبدو أننا بتنا نعتقد أن الإكراه في الدين أو تقييد حرية الاعتقاد، يحدث فقط حين تجبر شخصا على التحول من دين الى آخر، أو تمنعه من ممارسة صلواته وشعائره الدينية.
وفي الواقع العملي كلانا يخالف تلك القواعد الأساسية، لأنه ليس من المنطقي أن يكون لدينا قناعة حقيقية بأنه لا إكراه في الدين أو أن حرية الاعتقاد حق مكفول لدي حضارتنا، ثم نأتي ونستخدم معاييرنا الخاصة لتقدير مدى صحة أو خطأ غيرنا، بل ونجبره في بعض الأحيان على الالتزام بما نؤمن نحن به لو استطعنا.
قد نتفق على أن الحياة مرحلة للاختبار، أو فرصة، ومن حق كل إنسان أن يأخذ فرصته، دون أن يتعدى على فرص وحريات الآخرين، خاصة إذا لم يكن لنا يد في منحها إياه، وإنما منحها له من أوجده.
ربما يكون هذا هو المنطلق المنطقي للحرية الدينية، أو عدم الإكراه في الدين. من يؤمن بالبعث والحساب يحتاج هذه الفرصة، لأنه بعد البعث سيجني حصاد أعماله ومعتقداته في الدنيا، ومن لا يؤمن بالبعث يحتاج إليها لأنه يريد أن يستمتع بها أو يستغلها كيف يشاء.
قد يدفع البعض بأنه لو تجاوزنا نقطة الخطأ في القياس، فان الأزمة لن تنتهي لان للغرب "أطماع" (أو بتعبير أكثر دقة، مصالح) في العالم الإسلامي، وانه تدفعه الى الصراع والغزو من اجل الحصول عليها.
هذا الفرض غير صحيح لان لكل الدول مصالح مع بعضها البعض، وكذلك خلافات، وطريقة التعامل للحصول على تلك المصالح، أو لحل تلك الخلافات، تتوقف على طبيعة العلاقة بين الطرفين، ومدى حدة التوتر بينهما. لذا من المهم العمل على تحسين العلاقات، وللخفض من حدة التوتر إذا كان لدينا رغبة صادقة في التلاقي والتعاون.
تجاوزه مسالة الخطأ في القياس سوف يوجد بيئة أفضل للتعايش، وللاحترام المتبادل، ومن ثم يمكن حل المشكلات الاقتصادية والسياسية وغيرها، بشكل أفضل، بعد أن يزول الترقب، والتوجس الذي بقى طويلا بين الحضارتين.
من المهم أيضا النظر الى كلتي الثقافتين على أنهما منظومتين متباينتين، لكن كل واحدة منهما متكاملة ومتجانسة في ذاتها. وهذا التباين يتضمن رؤى متعارضة، لكنه طور أيضا حلولا مكملة ومعالجة للمشكلات الموجودة لدي الطرف الآخر.
لكن تحديد تلك الحلول المكملة، أو المعاجلة، لا يجب أن يأتي نتيجة ضغط من طرف على طرف آخر. لأنه قد لا يكون حلا، بل جزء متعارض مع المنظومة الأصلية، فيتلفها.
وهذا ما يحدث في بلداننا الإسلامية منذ عقود، لقد أخذنا، أو فرضت علينا قطع غير متوافقة مع منظومتنا. أصبحنا مثل سيارة لها إطاري جرار زراعي في الأمام، وآخران لسيارة مرسيدس في الخلف، وموتر دراجة بخارية، ولها بوق قطار.
أخذنا قطع عديدة غير مناسبة، واحتفظنا بمنظومتنا الأصلية، خربة دون إصلاح. أما في الغرب فمنظومتهم، أو سيارتهم - حتى أن لم تكن تعجب البعض - متكاملة، كل جزء فيها متناسق مع الآخر.
لهذا سيارتهم تتقدم بسرعتها الطبيعية، وسيارتنا لا تتحرك أو تتحرك ببطء محدثة جلبة وباعثة أدخنة خانقة لنا وللعالم أيضا.
وهذا انعكاس هام وطبيعي، للخطأ في القياس. خطأ في تشخيص المشكلات، وبالتالي الإخفاق في تقدير ما هو العلاج الصحيح.
في النهاية، أود أن أوجه شكرا خاصا للدكتورة ميسون الدخيل، الأستاذة الجامعية والكاتبة السعودية المعروفة، لأنها شجعتني على التركيز على مسألة "الخطأ في القياس"، بعد أن تفضلت متبرعة بترجمة فقرتين من مقال سابق تحت عنوان " بن لادن وتحويل الأمريكيين إلى الإسلام!" وأرسلتهما الى مجموعة من أصدقائها الأمريكيين، ولقيت الفكرة استحسانا منهم وقاموا بإعادة إرسالها لأصدقائهم، وهو ما شجعني على كتابة مقال خاص بهذه الفكرة، فشكرا لها.
الفكرة أيضا لقيت استحسانا من زملائي وأصدقائي، ومنهم الصحافيين العرب والأجانب زوي التوجهات الدينية والعلمانية، وهو ما يفتح باب الأمل.
ياسر خليل
باحث وصحافي مصري
Yasserof2003@yahoo.com