الناشر جريدة "النهار" اللبنانية - يوم 5-7-2006
تنبؤات المحللين والباحثين بصعود الصين كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة وربما تتخطاها، باتت قاب قوسين او ادنى من التحقق، وفي غضون عقدين او ثلاثة، وربما بحلول عام2015، سيواجه العالم نوعا جديدا من "العولمة"، يمكن ان نطلق عليه اسم "التصيّن" نسبة الى الصين. هذه العولمة الجديدة ستكون مختلفة بكل المقاييس عما شاهدناه في عصر "الأمركة"، نظرا للاختلاف شبه الكامل بين العقائد الدينية والايديولوجيات السياسية ومساحات الحرية وطبيعة الناس في البلدين (اميركا والصين).
بقيت الصين لغزاً محيراً في الماضي والحاضر، فدارسو حضارتها القديمة يصفونها بأنها فريدة وممتعة، ولكنها محيرة لمن يحاول فهمها، ويرجعون ذلك الى انها نشأت في عزلة شبه تامة نظراً الى موقعها الجغرافي في اقصى شرق آسيا. وبعض الباحثين في نهضتها الحديثة، يرى انها تمثل لغزاً، ولا يقطع بما اذا كانت ستصبح تهديدا أم لا لدول العالم الاخرى، خصوصا في محيطها الاقليمي الآسيوي.
واللافت ان اغلب الناس، في شتى انحاء العالم، ينظرون الى الصين على انها بلد جيد، ومفضل، ولا يعرفون عنها الكثير، ويوضح هذا بجلاء استطلاع للراي اجراه "مركز بيو للابحاث"، شمل 16 دولة، وتبين منه ان مواطني 11 بلدا منها معظمهم يفضلون الصين، ويلاحظ انه من بين تلك البلدان 15 بلدا غربيا مسيحيا (وفقا لاغلبية السكان)، وعربيا واسلاميا اضافة الى الهند.
وكشفت نتائج الاستطلاع عن ان من يفضلون الصين نسبهم كما يلي: الولايات المتحدة 43 في المئة، كندا 58 في المئة، بريطانيا العظمى 65 في المئة، فرنسا 58 في المئة، المانيا 46 في المئة، اسبانيا 57 في المئة، هولندا 56 في المئة، روسيا 60 في المئة، بولندا 36 في المئة، تركيا 40 في المئة، باكستان 79 في المئة، لبنان 66 في المئة، الاردن 43 في المئة، اندونيسيا 73 في المئة، الهند 56 في المئة، وفي الصين نفسها 88 في المئة.
معظم الناس كونوا وجهة نظرهم عن الصين متأثرين بعوامل عدة، فمثلا هي دولة لا تلعب بعنف في الساحة الدولية، حتى الآن، وتبدو كمتحد للهيمنة الاحادية الجانب من قبل الولايات المتحدة، التي تثير حفيظة الكثيرين، يضاف الى هذا ان السواد الاعظم منا لا يعرف اللغة الصينية، وبالتالي نحن نتلقى الصورة التي ترغب بكين ان تصدرها عن نفسها، من خلال وسائل اعلامها الموجهة والتي ينشر بعضها بتسع لغات، ومن بين وسائلها الاعلامية، مجلة "الصين اليوم"، و"شبكة الصين"، و"وكالة انباء شنخوا"، وجريدة "الشعب" اليومية.
هذا البلد الذي يوشك ان يشارك في قيادة العالم، وربما ينفرد بها، لا يؤمن بالحريات الاساسية مثل حرية الاعتقاد والتعبير والممارسة السياسية، ويقيدها بشدة، وتشير وثيقة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم قدمت في مؤتمره الوطني السادس عشر (عام 2002)، الى انه "يجب تطبيق سياسة الحزب حول حرية الاعتقاد الديني بصورة شاملة، وادارة الشؤون الدينية طبقا للقانون، وتوجيه الاديان ايجابيا لتتناسب مع المجتمع الاشتراكي، والتمسك بمبدأ الاستقلال والادارة الذاتية".
وبنظرة الى تقارير منظمات حقوق الانسان، ومنها "هيومن رايتس واتش"، و"منظمة العفو الدولية"، اضافة الى بعض المحادثات الالكترونية (Chat) التي أجريناها مع نشطين من قومية الايغور، يتبين ان القوانين تفصل خصيصا لتحقيق أهداف الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم قبضته على السلطة منذ انشاء جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ولا يسمح بأي معارضة من أي نوع، ويتدخل في الشؤون الدينية للأقليات، ولا سيما المسلمين والمسيحيين.
ورغم ان المسيحية والاسلام قد دخلا في فترات متقاربة الى الصين في القرن السابع الميلادي، اي قبل 1300 عام، الا أنهما لم يلقيا قبولا يذكر داخل هذا المجتمع، وأصبح تعداد المسلمين لا يتجاوز 18 مليونا (1 % - 2 %) منهم حوالى 7 ملايين "ايغوري" يتحدثون التركية في اقليم تركستان الشرقية (كسينجديانغ)، بينما لا يتجاوز عدد المسيحيين اكثر من 50 مليونا (2% - 4%)، من بين 1,3 مليار صيني، وحتى حين دخلت البوذية كمعتقد ديني أجنبي آت من الهند لم تلق قبولا كبيرا الا بعدما صبغها الصينيون بطابعهم الخاص.
والصحافة التي هي الأداة الاولى لكشف الفساد مقيدة بكل قوة، وجاءت الصين في الترتيب رقم 159 وفقا لقائمة حرية الصحافة في العالم خلال عام 2005، والذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود"، وضم 167 دولة، بينما وضعتها منظمة "بيت الحرية" في الترتيب 177 من بين 194 بلدا. ويتولى "القسم المركزي للدعاية" في "الحزب الشيوعي الصيني" تسيير أمور الاعلام بإحكام، خصوصا في الشؤون التي يعتقد الحزب أنها سياسية وحساسة.
وتفرض الصين رقابة صارمة على الانترنت، وقد وجهت بعض منظمات حقوق الانسان أخيرا انتقادات حادة لشركات عملاقة مثل "ياهو" و"جوجل" بسبب فرضهما رقابة على مواقعهما الالكترونية الصينية، لحساب حكومة بكين، واتهمت الاولى (ياهو) بأنها قدمت معلومات أدت الى اعتقال عدد من مستخدمي الانترنت الصينيين، ومنهم صحافيون.
وعن تقييد الحريات السياسية فان تاريخ الصين الحديث شهد اغتيال ملايين المعارضين، اما من خلال أحكام الاعدام، التي ما زالت بكين تتقدم دول العالم في عددها، او من خلال الموت من التعذيب في معسكرات "اعادة التثقيف من خلال العمل" وما زال معمولا بها حتى يومنا هذا.
ويثير الانفاق العسكري المتصاعد لهذا البلد مخاوف الكثير من الدول، ولا سيما اليابان والولايات المتحدة، ويظهر اختلافا بين ما تعلنه حكومة الحزب الشيوعي من ارقام لانفاقها وما يرصده المراقبون والمحللون في مراكز الابحاث.
وكانت التقديرات الرسمية الصينية للانفاق العسكري عام 2000، بلغت 14,6 مليار دولار، بزيادة مقدارها 12,6 في المئة عن عام 1999، وعام 2001 وصلت الى 17 مليارا، مرتفعة بمقدار 17,7 في المئة، وفي سنة 2002 قدر الانفاق بنحو 20 مليارا، بارتفاع 17,6 في المئة، وعام 2003 وصل الى 22,4 مليارا ليزيد بنسبة 9,6 في المئة، وفي 2004 بلغ 24,6 مليارا، مرتفعا بنحو 11,6 في المئة، أما في سنة 2005 فوصل الى 29,9 مليارا بزيادة 12,6 في المئة.
وتشير تقديرات بعض المحللين في مراكز الابحاث المستقلة، وكذلك بعض تقديرات المسؤولين العسكريين الاميركيين، الى ان حجم الانفاق الفعلي للصين يصل الى ثلاثة أضعاف ما تعلنه بكين رسميا.
ولدى الصين ما يناهز 343 مليون رجل متاحين للقتال تراوح اعمارهم ما بين 18 – 49 عاما، منهم قرابة 281 مليونا مناسبون للخدمة العسكرية، ويعد جيش التحرير الشعبي الصيني حاليا، اكبر جيوش العالم من حيث عدد الجنود حيث يبلغ تعدادهم نحو 2 مليون جندي.
ويقول تقرير Quadrennial Defense Review Report الذي تصدره وزارة الدفاع الاميركية كل اربع سنوات، والذي صدر في شباط عام 2006، ان الصين واصلت زيادة انفاقها العسكري بنسبة تفوق 10 في المئة، منذ عام 1996، باستثناء عام 2003، وان بكين استثمرت بقوة في تنمية قدرات وتسهيلات عسكرية تؤهلها لتخطي حدودها الجغرافية.
وتملك الصين اقتصادا سريع النمو، يمكنه ان يدعم خططها وقدراتها العسكرية، بلغ معدل نموه العام الماضي نحو 9,9 في المئة، هذا الاقتصاد يحتل المركز السادس عالميا، ويقفز الى الرابع اذا اضيف اليه اقتصاد هونغ كونغ.
ويصل حجم القوى العاملة الصينية الى 149,3 مليون نسمة، وحجم البطالة 5,1 في المئة، وتبلغ معدلات الفقر حوالى 10 في المئة من اجمالي عدد السكان، اي 130 مليون نسمة وتستهلك الصين ضعف ما تنتجه من البترول تقريبا، فهي تنتج نحو 3,504 مليون برميل يوميا، وتستهلك قرابة 6,391 وفقا لتقديرات عام 2004.
ومما سبق نستخلص ان هناك عملاقا ينهض بسرعة كبيرة، ولن يكون في وسع احد اعادته الى مكمنه لو خرج، وان تأثيرات عقائدية وثقافية جديدة، تختلف جوهريا مع اكثر من نصف سكان الارض التي يقطنها نحو 2 مليار مسيحي، و1,3 مليار مسلم، وقرابة 14 مليون يهودي، جميعهم تختلف عقائدهم السماوية، جذريا مع العقائد الكونفوشية والطاوية والبوذية التي يؤمن بها نحو 94 في المئة من الصينيين، الذين من المؤكد انهم سيسعون الى نشر ثقافتهم اذا ما حققت لبلدهم امكانية الصعود كدولة عظمى. ونلاحظ ان هذا البلد الآسيوي، ما زال حتى اليوم في عداد الدول النامية، ولديه عشرات الملايين من الفقراء، ولم تصل احتياجاته من المواد الخام، وخاصة النفط الى مداها، ولم تبلغ بعد قدراته حد مواجهة القوى الكبرى الحالية في العالم، لذا فانه من غير الممكن الحكم على سياساته الخارجية الان على انها ستكون سياساته في المستقبل، فلا بد انها ستتطور لتخدم مصالحه المتنامية في العالم.
ويبقى سؤال: هل سيؤدي هذا الخطر الكبير المحتمل، الى اعادة صياغة العلاقة التاريخية المتوترة بين الغرب والعالمين العربي والاسلامي بصورة مختلفة؟
• باحث وصحافي مصري