Yasser Khalil

مدونة تضم بعض اعمال الباحث والصحافي المصري ياسر خليل.

2006-07-13

"التصين" العولمة المرتقبة
بقلم ياسر خليل
الناشر جريدة "النهار" اللبنانية - يوم 5-7-2006
تنبؤات المحللين والباحثين بصعود الصين كقوة عظمى تنافس الولايات المتحدة وربما تتخطاها، باتت قاب قوسين او ادنى من التحقق، وفي غضون عقدين او ثلاثة، وربما بحلول عام2015، سيواجه العالم نوعا جديدا من "العولمة"، يمكن ان نطلق عليه اسم "التصيّن" نسبة الى الصين. هذه العولمة الجديدة ستكون مختلفة بكل المقاييس عما شاهدناه في عصر "الأمركة"، نظرا للاختلاف شبه الكامل بين العقائد الدينية والايديولوجيات السياسية ومساحات الحرية وطبيعة الناس في البلدين (اميركا والصين).
بقيت الصين لغزاً محيراً في الماضي والحاضر، فدارسو حضارتها القديمة يصفونها بأنها فريدة وممتعة، ولكنها محيرة لمن يحاول فهمها، ويرجعون ذلك الى انها نشأت في عزلة شبه تامة نظراً الى موقعها الجغرافي في اقصى شرق آسيا. وبعض الباحثين في نهضتها الحديثة، يرى انها تمثل لغزاً، ولا يقطع بما اذا كانت ستصبح تهديدا أم لا لدول العالم الاخرى، خصوصا في محيطها الاقليمي الآسيوي.
واللافت ان اغلب الناس، في شتى انحاء العالم، ينظرون الى الصين على انها بلد جيد، ومفضل، ولا يعرفون عنها الكثير، ويوضح هذا بجلاء استطلاع للراي اجراه "مركز بيو للابحاث"، شمل 16 دولة، وتبين منه ان مواطني 11 بلدا منها معظمهم يفضلون الصين، ويلاحظ انه من بين تلك البلدان 15 بلدا غربيا مسيحيا (وفقا لاغلبية السكان)، وعربيا واسلاميا اضافة الى الهند.
وكشفت نتائج الاستطلاع عن ان من يفضلون الصين نسبهم كما يلي: الولايات المتحدة 43 في المئة، كندا 58 في المئة، بريطانيا العظمى 65 في المئة، فرنسا 58 في المئة، المانيا 46 في المئة، اسبانيا 57 في المئة، هولندا 56 في المئة، روسيا 60 في المئة، بولندا 36 في المئة، تركيا 40 في المئة، باكستان 79 في المئة، لبنان 66 في المئة، الاردن 43 في المئة، اندونيسيا 73 في المئة، الهند 56 في المئة، وفي الصين نفسها 88 في المئة.
معظم الناس كونوا وجهة نظرهم عن الصين متأثرين بعوامل عدة، فمثلا هي دولة لا تلعب بعنف في الساحة الدولية، حتى الآن، وتبدو كمتحد للهيمنة الاحادية الجانب من قبل الولايات المتحدة، التي تثير حفيظة الكثيرين، يضاف الى هذا ان السواد الاعظم منا لا يعرف اللغة الصينية، وبالتالي نحن نتلقى الصورة التي ترغب بكين ان تصدرها عن نفسها، من خلال وسائل اعلامها الموجهة والتي ينشر بعضها بتسع لغات، ومن بين وسائلها الاعلامية، مجلة "الصين اليوم"، و"شبكة الصين"، و"وكالة انباء شنخوا"، وجريدة "الشعب" اليومية.
هذا البلد الذي يوشك ان يشارك في قيادة العالم، وربما ينفرد بها، لا يؤمن بالحريات الاساسية مثل حرية الاعتقاد والتعبير والممارسة السياسية، ويقيدها بشدة، وتشير وثيقة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم قدمت في مؤتمره الوطني السادس عشر (عام 2002)، الى انه "يجب تطبيق سياسة الحزب حول حرية الاعتقاد الديني بصورة شاملة، وادارة الشؤون الدينية طبقا للقانون، وتوجيه الاديان ايجابيا لتتناسب مع المجتمع الاشتراكي، والتمسك بمبدأ الاستقلال والادارة الذاتية".
وبنظرة الى تقارير منظمات حقوق الانسان، ومنها "هيومن رايتس واتش"، و"منظمة العفو الدولية"، اضافة الى بعض المحادثات الالكترونية (Chat) التي أجريناها مع نشطين من قومية الايغور، يتبين ان القوانين تفصل خصيصا لتحقيق أهداف الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم قبضته على السلطة منذ انشاء جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ولا يسمح بأي معارضة من أي نوع، ويتدخل في الشؤون الدينية للأقليات، ولا سيما المسلمين والمسيحيين.
ورغم ان المسيحية والاسلام قد دخلا في فترات متقاربة الى الصين في القرن السابع الميلادي، اي قبل 1300 عام، الا أنهما لم يلقيا قبولا يذكر داخل هذا المجتمع، وأصبح تعداد المسلمين لا يتجاوز 18 مليونا (1 % - 2 %) منهم حوالى 7 ملايين "ايغوري" يتحدثون التركية في اقليم تركستان الشرقية (كسينجديانغ)، بينما لا يتجاوز عدد المسيحيين اكثر من 50 مليونا (2% - 4%)، من بين 1,3 مليار صيني، وحتى حين دخلت البوذية كمعتقد ديني أجنبي آت من الهند لم تلق قبولا كبيرا الا بعدما صبغها الصينيون بطابعهم الخاص.
والصحافة التي هي الأداة الاولى لكشف الفساد مقيدة بكل قوة، وجاءت الصين في الترتيب رقم 159 وفقا لقائمة حرية الصحافة في العالم خلال عام 2005، والذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود"، وضم 167 دولة، بينما وضعتها منظمة "بيت الحرية" في الترتيب 177 من بين 194 بلدا. ويتولى "القسم المركزي للدعاية" في "الحزب الشيوعي الصيني" تسيير أمور الاعلام بإحكام، خصوصا في الشؤون التي يعتقد الحزب أنها سياسية وحساسة.
وتفرض الصين رقابة صارمة على الانترنت، وقد وجهت بعض منظمات حقوق الانسان أخيرا انتقادات حادة لشركات عملاقة مثل "ياهو" و"جوجل" بسبب فرضهما رقابة على مواقعهما الالكترونية الصينية، لحساب حكومة بكين، واتهمت الاولى (ياهو) بأنها قدمت معلومات أدت الى اعتقال عدد من مستخدمي الانترنت الصينيين، ومنهم صحافيون.
وعن تقييد الحريات السياسية فان تاريخ الصين الحديث شهد اغتيال ملايين المعارضين، اما من خلال أحكام الاعدام، التي ما زالت بكين تتقدم دول العالم في عددها، او من خلال الموت من التعذيب في معسكرات "اعادة التثقيف من خلال العمل" وما زال معمولا بها حتى يومنا هذا.
ويثير الانفاق العسكري المتصاعد لهذا البلد مخاوف الكثير من الدول، ولا سيما اليابان والولايات المتحدة، ويظهر اختلافا بين ما تعلنه حكومة الحزب الشيوعي من ارقام لانفاقها وما يرصده المراقبون والمحللون في مراكز الابحاث.
وكانت التقديرات الرسمية الصينية للانفاق العسكري عام 2000، بلغت 14,6 مليار دولار، بزيادة مقدارها 12,6 في المئة عن عام 1999، وعام 2001 وصلت الى 17 مليارا، مرتفعة بمقدار 17,7 في المئة، وفي سنة 2002 قدر الانفاق بنحو 20 مليارا، بارتفاع 17,6 في المئة، وعام 2003 وصل الى 22,4 مليارا ليزيد بنسبة 9,6 في المئة، وفي 2004 بلغ 24,6 مليارا، مرتفعا بنحو 11,6 في المئة، أما في سنة 2005 فوصل الى 29,9 مليارا بزيادة 12,6 في المئة.
وتشير تقديرات بعض المحللين في مراكز الابحاث المستقلة، وكذلك بعض تقديرات المسؤولين العسكريين الاميركيين، الى ان حجم الانفاق الفعلي للصين يصل الى ثلاثة أضعاف ما تعلنه بكين رسميا.
ولدى الصين ما يناهز 343 مليون رجل متاحين للقتال تراوح اعمارهم ما بين 18 – 49 عاما، منهم قرابة 281 مليونا مناسبون للخدمة العسكرية، ويعد جيش التحرير الشعبي الصيني حاليا، اكبر جيوش العالم من حيث عدد الجنود حيث يبلغ تعدادهم نحو 2 مليون جندي.
ويقول تقرير Quadrennial Defense Review Report الذي تصدره وزارة الدفاع الاميركية كل اربع سنوات، والذي صدر في شباط عام 2006، ان الصين واصلت زيادة انفاقها العسكري بنسبة تفوق 10 في المئة، منذ عام 1996، باستثناء عام 2003، وان بكين استثمرت بقوة في تنمية قدرات وتسهيلات عسكرية تؤهلها لتخطي حدودها الجغرافية.
وتملك الصين اقتصادا سريع النمو، يمكنه ان يدعم خططها وقدراتها العسكرية، بلغ معدل نموه العام الماضي نحو 9,9 في المئة، هذا الاقتصاد يحتل المركز السادس عالميا، ويقفز الى الرابع اذا اضيف اليه اقتصاد هونغ كونغ.
ويصل حجم القوى العاملة الصينية الى 149,3 مليون نسمة، وحجم البطالة 5,1 في المئة، وتبلغ معدلات الفقر حوالى 10 في المئة من اجمالي عدد السكان، اي 130 مليون نسمة وتستهلك الصين ضعف ما تنتجه من البترول تقريبا، فهي تنتج نحو 3,504 مليون برميل يوميا، وتستهلك قرابة 6,391 وفقا لتقديرات عام 2004.
ومما سبق نستخلص ان هناك عملاقا ينهض بسرعة كبيرة، ولن يكون في وسع احد اعادته الى مكمنه لو خرج، وان تأثيرات عقائدية وثقافية جديدة، تختلف جوهريا مع اكثر من نصف سكان الارض التي يقطنها نحو 2 مليار مسيحي، و1,3 مليار مسلم، وقرابة 14 مليون يهودي، جميعهم تختلف عقائدهم السماوية، جذريا مع العقائد الكونفوشية والطاوية والبوذية التي يؤمن بها نحو 94 في المئة من الصينيين، الذين من المؤكد انهم سيسعون الى نشر ثقافتهم اذا ما حققت لبلدهم امكانية الصعود كدولة عظمى. ونلاحظ ان هذا البلد الآسيوي، ما زال حتى اليوم في عداد الدول النامية، ولديه عشرات الملايين من الفقراء، ولم تصل احتياجاته من المواد الخام، وخاصة النفط الى مداها، ولم تبلغ بعد قدراته حد مواجهة القوى الكبرى الحالية في العالم، لذا فانه من غير الممكن الحكم على سياساته الخارجية الان على انها ستكون سياساته في المستقبل، فلا بد انها ستتطور لتخدم مصالحه المتنامية في العالم.
ويبقى سؤال: هل سيؤدي هذا الخطر الكبير المحتمل، الى اعادة صياغة العلاقة التاريخية المتوترة بين الغرب والعالمين العربي والاسلامي بصورة مختلفة؟

• باحث وصحافي مصري

2006-07-05

فريد زكريا ينفي في كتابه الجديد أن يكون الإسلام سببا في الإرهاب أو التخلف

القاهرة: ياسر خليل
الناشر جريدة "الشرق الاوسط" اللندنية - في 5-7-2006
الديمقراطية والليبرالية في أمريكا والعالم، هما المحوران الرئيسيان لكتاب «مستقبل الحرية»، للصحافي الأميركي فريد زكريا والذي صدرت ترجمته العربية أخيرا في القاهرة عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر».

وضع زكريا عنوانا فرعيا على غلاف كتابه يدلل به على مضمون ما يثيره من جدل وهو «الديمقراطية غير الليبرالية في الوطن والخارج».

وعبر مقدمة، وستة فصول يناقش الكتاب تاريخ الحرية الإنسانية والتنوير والديمقراطية غير الليبرالية، وغيرها من القضايا. ويرى مؤلفه، الذي يشغل منصب رئيس تحرير مجلة «نيوزويك» الدولية، أن هناك صنفين من الديمقراطية أحدهما ليبرالي والآخر غير ليبرالي، لافتا إلى أن ثمة خلطا كبيرا في الأذهان بينهما، وأنهما قد نشآ منفصلين عن بعضهما، عبر قرون من التاريخ الغربي حيث الحرية أولا ثم تلتها الديمقراطية.

وعلى خلاف السائد بين الكثيرين، بشأن نشأة الحرية في رحم الحضارة اليونانية، فان زكريا يعتقد بأن الشرارة الأولى لليبرالية التي يعيشها الغرب اليوم، انطلقت من وهج الصراع الذي دار بين الكنيسة (في روما) والدولة (في القسطنطينية)، في أعقاب تحرك قسطنطين شرقا لينقل عاصمة إمبراطوريته من روما، إلى بيزنطة (القسطنطينية)، عام 324 ميلاديا. وهو صراع دام نحو 1500 عام.

ويؤمن الكاتب إيمانا عميقا بالديمقراطية، التي «انتقلت من كونها احدى أشكال الحكم إلى أسلوب للحياة». لكن هذا لم يمنعه من توجيه نقد منهجي لهذه الظاهرة، خاصة حين تنفصل عن الليبرالية شريكتها الممتزجة معها في الغرب، إلى حد بدتا معه وكأنهما شيء واحد، وحين تتسبب في إحداث خلل في السلطة يقوض أداءها أو يؤثر عليه سلبا.

وفي انتقاده للديمقراطية غير الليبرالية، يضرب مثالا بهتلر الذي صعد إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية. وأشار إلى أن الكثير من أنظمة الحكم (الديكتاتورية) حول العالم أعيد انتخابها، أو جددت بها الثقة من خلال استفتاءات، وهي تتجاهل فرض قيود دستورية على سلطتها، وتحرم مواطنيها من حقوقهم الأساسية.

واعتبر زكريا أن الديمقراطية بالنسبة للشعوب الغربية ديمقراطية ليبرالية (دستورية)، حيث أنها نظام سياسي لا يتميز بالانتخابات الحرة والنزيهة فحسب، وإنما أيضا بسيادة القانون، والفصل بين السلطات، وحماية الحريات الأساسية للتعبير والتجمع والديانة والتملك. وكانت انجلترا والولايات المتحدة سباقتين في تبني الديمقراطية الليبرالية، فيما انتهجت الدول الأوروبية ـ حسبما يقول الكاتب ـ طريقا أكثر تعقيدا، لكنها وصلت إلى غايتها في نهاية الأمر. ويعزى التغير نحو الحرية والديمقراطية، إلى عدة صراعات دارت في العالم الغربي، بدأت بالصراع بين الكنيسة والدولة، وتلاها صراع الكاثوليك والبروتستانت، والملك واللوردات. كما يرى أن الطبقة الوسطى (البرجوازية) أو ما سمي بطبقة الأشراف في بريطانيا، كانت محركا فاعلا في التوجه نحو تلك القيم الإنسانية، لكنه مع ذلك أثنى على النخب خاصة القديمة لاضطلاعها بأدوار إنسانية في خدمة المجتمع.

ثم تساءل فريد زكريا عن دور الثقافة في هذه التحولات التاريخية، وهل يجب أن تكون الدول غربية حتى تتمكن من النجاح في سلك طريق الديمقراطية الليبرالية؟ ولم يبد زكريا مقتنعا بالإجابات البسيطة التي ترجع سر النجاح إلى طبيعة ثقافة ما، وكان أكثر ميلا إلى أن الإجابة عن هذا السؤال أكثر تعقيداً، فهو مع اعترافه بالدور المؤثر للثقافات، اعتبر أيضا أن تبني الحكومات سياسات حكيمة عامل هام في نجاح بلدانها.

ويرى المؤلف أن الأميركيين يبالغون «في موضوع الديمقراطية إلى حد اعتبار نظامهم الخاص بمثابة ابتكار هائل يصعب على أي دولة أخرى الأخذ به»، ويصف ديمقراطيتهم بأنها مقيدة (نسبيا)، ولكنها تشكل صيغة خاصة بأميركا منسجمة مع بعضها البعض، ولكنها تحتاج في الوقت الراهن إلى التطوير.

وسعى الكتاب إلى تحليل الفوارق بين بعض البلدان في أوروبا وخاصة ألمانيا، وبين انجلترا، معتبرا أن مشكلات التحول في تلك البلدان قد توحي بحلول لمعضلات التغير الديمقراطي في الكثير من دول العالم اليوم، رابطاً بين استمرار الديمقراطية في دولة ما، وبين تقدمها اقتصاديا، «وفق الخطوط الرأسمالية»، إذ أن وجود ديمقراطية بغير تقدم اقتصادي يفضي إلى موت الديمقراطية، وربما لذلك وضع المؤلف مقياسا فرضيا، للتعرف على الدول المرشحة لأن تتجه نحو الديمقراطية، وهو نصيب الفرد من الدخل القومي، مشيرا إلى أنه (يتراوح ما بين 5000-6000 دولار)، في الدول التي لا تعتمد على موارد طبيعية في دخلها.

وخصص زكريا مساحة للحديث عن الصين وروسيا، باعتبارهما أهم نموذجين للدول الديمقراطية غير الليبرالية، واعتبر أن روسيا تتجه أكثر نحو الإصلاح، مقارنة بالصين، ولكن رئيسها (بوتين) ـ على حد قوله ـ واصل نهج سلفه (يلتسين) في الاستحواذ على المزيد من سلطات الحكم، واعتبره يسير في الاتجاه الخطأ حتى ولو كانت نياته نبيلة، فقد يأتي خلف له ليتحول إلى «قيصر» روسيا مستغلا تركة بوتين من الصلاحيات.

ويحذر المؤلف من «افتراض شائع يجانبه الصواب في اغلب الأحيان، وهو أن قوى الديمقراطية هي قوى التآلف والسلام العرقيين، وليس هذا صحيحا بالضرورة، وانه في ظل غياب خلفية من الليبرالية الدستورية، فان تطبيق الديمقراطية في مجتمعات منقسمة أثار بالفعل النعرات القومية، والنزاع العرقي، والحرب ذاتها، وذكر أمثلة منها الهند ويوغوسلافيا السابقة.

ويرصد المؤلف في هذا السياق مفارقة في ما يسميه الاستثناء الذي يمثله العالم الإسلامي، وبشكل خاص العالم العربي مفادها أنه كلما «نمت المعارضة داخل المجتمع باطراد أكبر، كلما حفز ذلك الدولة علي مزيد من القمع. ويحدث ذلك على النقيض من العملية التاريخية في العالم الغربي».

ويتساءل المؤلف هنا «لماذا تعد هذه المنطقة (الشرق الأوسط) الحالة السياسية الغريبة للعالم؟ لماذا ترفض الامتثال، وتشرد عن مسار المجتمعات الحديثة؟

وفي معرض مناقشته لهذه التساؤلات ينفي أن يكون الإسلام هو السبب في ذلك ويصف الدين الإسلامي بأنه «مسحة مناهضة للاستبداد تتجلى بوضوح في كل ديار الإسلام اليوم»، لكنه مع ذلك أدان «المتأسلمين» فهم ـ على حد قوله ـ يستغلون الدين في تحقيق أهداف سياسية، ولا يخفي قلقا من وصولهم إلى الحكم في ظل انتخابات حرة ونزيهة، معتبرا أن حكام العالم العربي أكثر منهم ليبرالية.

وعلى ضوء ذلك يرى زكريا أن دعم الولايات المتحدة والغرب لتطبيق النظم الحاكمة في العالم العربي الليبرالية الدستورية دون الضغط عليها لإجراء انتخابات، سيكون له نتائج أفضل من دفعها لإجراء انتخابات قد تأتي بمن هم أكثر استبدادا وتصادما مع الغرب وقيمه، وهو يشير هنا إلى التيار الديني. وفي ضوء هذا أيضا حاول المؤلف فهم أسباب فقد نسبة كبيرة من المواطنين الأميركيين ثقتهم في النظام الحاكم، وخلص إلى أن توجه الساسة الأميركيين نحو مزيد من الديمقراطية والانفتاح، من خلال الاهتمام أكثر باستطلاع آراء الجماهير، أفضي إلى نتائج عكسية، وساهم في اختراق النظام من خلال جماعات الضغط التي باتت تدير واشنطن، وتقدر أعدادها بالآلاف، وتعمل لتحقيق مصالح متباينة، حسبما يقول المؤلف.

ويقول زكريا «إن ما نحتاج إليه في مجال السياسة ليس قدرا اكبر من الديمقراطية، وإنما قدراً أقل. ولا يعني بذلك انه يتعين إفساح الطريق أمام الطغاة والمتجبرين، وإنما بالأحرى يجب أن نتساءل لماذا تعمل مؤسسات معينة داخل المجتمع، ويقصد الأميركي، مثل نظام الاحتياطي الفيدرالي والمحكمة العليا (أعضاؤهما غير منتخبين) ـ على أكمل وجه، بينما يتسم أداء مؤسسات أخرى ـ مثل الهيئات التشريعية (منتخبة) ـ بالضعف».

وتصبح الحاجة إلى التفويض أشد إلحاحا في الدول النامية، لأن المخاطر عادة ما تكون أعظم، إذ يتعين على الحكومات أن تبدي التزاما وانضباطا عميقين فيما تنتهج من سياسات، وإلا فقدت الأسواق ثقتها فيها بسرعة، وينبغي لها أن تركز على الأمد الطويل على التنمية الحضرية، والتعليم، والرعاية الصحية، إذا كانت لا تريد لمجتمعاتها أن تنزلق نحو الركود والفوضى، مؤكداً أن السياسات المتبصرة تحقق عوائد ضخمة، أما السياسات قصيرة الأمد فتنطوي على تكاليف باهظة.

بقلم: ياسر خليل
الناشر موقع "ميدل ايست اونلاين" - في 4-7-2006
منطق غريب، وتناقض في السلوك، ولكنه ليس الأول من نوعه، فهناك سوابق عديدة، أدت إلي إحراج المصريين، وتسببت في عرقلة جهود السلام.

في يوم 26 يونيو 2006 وفي أعقاب اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط، طلب عمير بيرتس وزير الدفاع الإسرائيلي، من مدير المخابرات المصرية الوزير عمر سليمان، أن تتوسط مصر لإطلاق سراح الجندي المخطوف، وفقا لما ذكرته الإذاعة الإسرائيلية.

تدخل الرئيس المصري محمد حسني مبارك، لحل الأزمة، واجرى اتصالاته، وأعلن عن قبول حماس لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي بشروط. وأُعلن أيضا أن الوساطة المصرية تسببت في وقف الاجتياح العسكري البري الإسرائيلي لغزة، والذي كان يخشى منه وقوع كوارث إنسانية أكثر وطأة من الوضع الراهن.

في يوم 30 من الشهر نفسه، تناقلت بعض وسائل الإعلام، تصريحات، عن مصادر إسرائيلية أمنية مجهولة (لم يذكر اسم المصدر)، تنفي ما تردد إعلاميا عن أن الوساطة المصرية هي السبب في إيقاف الهجوم البري الإسرائيلي علي القطاع.

هذان سلوكان متناقضان، وزير الدفاع الإسرائيلي يطلب من المصريين التوسط لدي الفلسطينيين، ثم تصدر تصريحات أمنية إسرائيلية تنفي وقف الاجتياح البري بناء علي وساطة مصرية لوقف الهجوم العسكري، وأن مصر لم تطلب وقف التحرك العسكري البري ضد غزة من تل ابيب!

هذه تبدو وكأنها دعوة إسرائيلية مثيرة للدهشة لإحراج القاهرة، تل أبيب تدعو المصريين للتوسط لإطلاق صراح الجندي شليط، ثم تقدم لهم هدية، بتصريح يظهرهم وكأنهم يعملون لإنقاذ مقاتل إسرائيلي دون الاهتمام بأرواح إخوانهم من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء!

منطق غريب، وتناقض في السلوك، ولكنه ليس الأول من نوعه، فهناك سوابق عديدة، أدت إلي إحراج المصريين، وتسببت في عرقلة جهود السلام.

أتذكر في هذا الصدد قصة مثيرة وردت في كتاب تحت عنوان "كيف يرانا الإسرائيليون؟ مذكرات موشيه ساسون، السفير الأسبق لإسرائيل في القاهرة" ترجمة الكاتب الصحافي المتخصص في الشؤون الإسرائيلية، حسين سراج الدين.

مضمون هذه القصة الطويلة، يحكي أن مناحيم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، كان قد التقى الرئيس المصري محمد أنور السادات، في شرم الشيخ قبل الانتخابات الإسرائيلية بأيام، وهدف من هذا اللقاء إلى استغلالها في أغراض انتخابية، وكان الرئيس السادات مدركا لهذا الهدف غير المعلن، إلا انه وافق على اللقاء، وكان يرمي إلى دعم بيجن لأنه رجل قوي يمكنه تمرير قراراته في تل أبيب.

بعد يومين فقط من هذا اللقاء، وتحديدا في يوم 7 يونيو 1981، كان رد بيجين للجميل، فتم ضرب المفاعل النووي العراقي، وكان غضب الرئيس المصري بالغا، وشعر بإهانة شخصية، فقد وضع في موقف محرج للغاية أمام شعبه، وأمام العالم العربي الرافض لاتفاق السلام في حينها.

نوع آخر من التناقض في السلوك الإسرائيلي مع مصر، هذه المرة هو تناقض اقتصادي: وقعت القاهرة مع تل أبيب وواشنطن اتفاقية "المناطق الصناعية المؤهلة" المعروفة بالكويز، وبدأ تفعيل الاتفاقية في مطلع العام الماضي، وراج أن تلك الاتفاقية ستنعش الاقتصاد المصري، وهي بالفعل فعلت ذلك.

الكويز ساهمت في مضاعفة أسعار الأسهم في البورصة، ورفعت صادرات مصر إلى أميركا في العام الماضي بنحو 57% في عام 2005، وحافظت وفقا للسفير الأميركي بالقاهرة فرانسيس ريشتاردوني، على نحو 150 ألف وظيفة في قطاع المنسوجات، فيما ينتظر أن توفر نحو 250 ألف وظيفة أخرى بحلول عام 2010.

كل هذه المزايا لا تمنع من أن الإسرائيليين يبذلون جهودا كبيرة لتعطيل نمو اقتصاد مصر من جانب آخر، من خلال منع دخول القاهرة في مفاوضات لإنشاء منطقة تجارة حرة مع أميركا، على غرار بعض الدول العربية مثل الأردن، والمغرب، وعمان، والبحرين.

وجود منطقة تجارة حرة بين مصر وأميركا، سيلغي الميزة التي حصلت عليها إسرائيل من الكويز، والتي تقضي بضرورة أن يتضمن كل منتج مصدر إلي أميركا من المناطق الصناعية المؤهلة في مصر، نسبة كانت 11,7% في البداية، انخفضت إلي 8% مؤخرا، منطقة التجارة الحرة، ستتيح دخول المنتجات المصرية إلى الأسواق الأميركية أيضا دون ضرائب (مثل الكويز)، بل ستكون أفضل لان حينها لن تتقيد بالشرط الملزم بدمج نسبة من المنتجات المستوردة من إسرائيل (وفقا للنسبة سالفة الذكر).

هذه التناقضات تبدو أنها تصب في مصلحة إسرائيل، دون مراعاة اعتبار لأول دولة وقعت معها اتفاقية سلام، الإسرائيليون بهذا يقلصون فرص التعاون معهم من قبل العالم العربي، لأنهم لم يجتهدوا لجعل سلامهم مع مصر نموذجا يحتذي به.

باحث وصحافي مصري *