القاهرة: ياسر خليل
الناشر جريدة "الشرق الاوسط" اللندنية - في 5-7-2006
الديمقراطية والليبرالية في أمريكا والعالم، هما المحوران الرئيسيان لكتاب «مستقبل الحرية»، للصحافي الأميركي فريد زكريا والذي صدرت ترجمته العربية أخيرا في القاهرة عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر».
وضع زكريا عنوانا فرعيا على غلاف كتابه يدلل به على مضمون ما يثيره من جدل وهو «الديمقراطية غير الليبرالية في الوطن والخارج».
وعبر مقدمة، وستة فصول يناقش الكتاب تاريخ الحرية الإنسانية والتنوير والديمقراطية غير الليبرالية، وغيرها من القضايا. ويرى مؤلفه، الذي يشغل منصب رئيس تحرير مجلة «نيوزويك» الدولية، أن هناك صنفين من الديمقراطية أحدهما ليبرالي والآخر غير ليبرالي، لافتا إلى أن ثمة خلطا كبيرا في الأذهان بينهما، وأنهما قد نشآ منفصلين عن بعضهما، عبر قرون من التاريخ الغربي حيث الحرية أولا ثم تلتها الديمقراطية.
وعلى خلاف السائد بين الكثيرين، بشأن نشأة الحرية في رحم الحضارة اليونانية، فان زكريا يعتقد بأن الشرارة الأولى لليبرالية التي يعيشها الغرب اليوم، انطلقت من وهج الصراع الذي دار بين الكنيسة (في روما) والدولة (في القسطنطينية)، في أعقاب تحرك قسطنطين شرقا لينقل عاصمة إمبراطوريته من روما، إلى بيزنطة (القسطنطينية)، عام 324 ميلاديا. وهو صراع دام نحو 1500 عام.
ويؤمن الكاتب إيمانا عميقا بالديمقراطية، التي «انتقلت من كونها احدى أشكال الحكم إلى أسلوب للحياة». لكن هذا لم يمنعه من توجيه نقد منهجي لهذه الظاهرة، خاصة حين تنفصل عن الليبرالية شريكتها الممتزجة معها في الغرب، إلى حد بدتا معه وكأنهما شيء واحد، وحين تتسبب في إحداث خلل في السلطة يقوض أداءها أو يؤثر عليه سلبا.
وفي انتقاده للديمقراطية غير الليبرالية، يضرب مثالا بهتلر الذي صعد إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية. وأشار إلى أن الكثير من أنظمة الحكم (الديكتاتورية) حول العالم أعيد انتخابها، أو جددت بها الثقة من خلال استفتاءات، وهي تتجاهل فرض قيود دستورية على سلطتها، وتحرم مواطنيها من حقوقهم الأساسية.
واعتبر زكريا أن الديمقراطية بالنسبة للشعوب الغربية ديمقراطية ليبرالية (دستورية)، حيث أنها نظام سياسي لا يتميز بالانتخابات الحرة والنزيهة فحسب، وإنما أيضا بسيادة القانون، والفصل بين السلطات، وحماية الحريات الأساسية للتعبير والتجمع والديانة والتملك. وكانت انجلترا والولايات المتحدة سباقتين في تبني الديمقراطية الليبرالية، فيما انتهجت الدول الأوروبية ـ حسبما يقول الكاتب ـ طريقا أكثر تعقيدا، لكنها وصلت إلى غايتها في نهاية الأمر. ويعزى التغير نحو الحرية والديمقراطية، إلى عدة صراعات دارت في العالم الغربي، بدأت بالصراع بين الكنيسة والدولة، وتلاها صراع الكاثوليك والبروتستانت، والملك واللوردات. كما يرى أن الطبقة الوسطى (البرجوازية) أو ما سمي بطبقة الأشراف في بريطانيا، كانت محركا فاعلا في التوجه نحو تلك القيم الإنسانية، لكنه مع ذلك أثنى على النخب خاصة القديمة لاضطلاعها بأدوار إنسانية في خدمة المجتمع.
ثم تساءل فريد زكريا عن دور الثقافة في هذه التحولات التاريخية، وهل يجب أن تكون الدول غربية حتى تتمكن من النجاح في سلك طريق الديمقراطية الليبرالية؟ ولم يبد زكريا مقتنعا بالإجابات البسيطة التي ترجع سر النجاح إلى طبيعة ثقافة ما، وكان أكثر ميلا إلى أن الإجابة عن هذا السؤال أكثر تعقيداً، فهو مع اعترافه بالدور المؤثر للثقافات، اعتبر أيضا أن تبني الحكومات سياسات حكيمة عامل هام في نجاح بلدانها.
ويرى المؤلف أن الأميركيين يبالغون «في موضوع الديمقراطية إلى حد اعتبار نظامهم الخاص بمثابة ابتكار هائل يصعب على أي دولة أخرى الأخذ به»، ويصف ديمقراطيتهم بأنها مقيدة (نسبيا)، ولكنها تشكل صيغة خاصة بأميركا منسجمة مع بعضها البعض، ولكنها تحتاج في الوقت الراهن إلى التطوير.
وسعى الكتاب إلى تحليل الفوارق بين بعض البلدان في أوروبا وخاصة ألمانيا، وبين انجلترا، معتبرا أن مشكلات التحول في تلك البلدان قد توحي بحلول لمعضلات التغير الديمقراطي في الكثير من دول العالم اليوم، رابطاً بين استمرار الديمقراطية في دولة ما، وبين تقدمها اقتصاديا، «وفق الخطوط الرأسمالية»، إذ أن وجود ديمقراطية بغير تقدم اقتصادي يفضي إلى موت الديمقراطية، وربما لذلك وضع المؤلف مقياسا فرضيا، للتعرف على الدول المرشحة لأن تتجه نحو الديمقراطية، وهو نصيب الفرد من الدخل القومي، مشيرا إلى أنه (يتراوح ما بين 5000-6000 دولار)، في الدول التي لا تعتمد على موارد طبيعية في دخلها.
وخصص زكريا مساحة للحديث عن الصين وروسيا، باعتبارهما أهم نموذجين للدول الديمقراطية غير الليبرالية، واعتبر أن روسيا تتجه أكثر نحو الإصلاح، مقارنة بالصين، ولكن رئيسها (بوتين) ـ على حد قوله ـ واصل نهج سلفه (يلتسين) في الاستحواذ على المزيد من سلطات الحكم، واعتبره يسير في الاتجاه الخطأ حتى ولو كانت نياته نبيلة، فقد يأتي خلف له ليتحول إلى «قيصر» روسيا مستغلا تركة بوتين من الصلاحيات.
ويحذر المؤلف من «افتراض شائع يجانبه الصواب في اغلب الأحيان، وهو أن قوى الديمقراطية هي قوى التآلف والسلام العرقيين، وليس هذا صحيحا بالضرورة، وانه في ظل غياب خلفية من الليبرالية الدستورية، فان تطبيق الديمقراطية في مجتمعات منقسمة أثار بالفعل النعرات القومية، والنزاع العرقي، والحرب ذاتها، وذكر أمثلة منها الهند ويوغوسلافيا السابقة.
ويرصد المؤلف في هذا السياق مفارقة في ما يسميه الاستثناء الذي يمثله العالم الإسلامي، وبشكل خاص العالم العربي مفادها أنه كلما «نمت المعارضة داخل المجتمع باطراد أكبر، كلما حفز ذلك الدولة علي مزيد من القمع. ويحدث ذلك على النقيض من العملية التاريخية في العالم الغربي».
ويتساءل المؤلف هنا «لماذا تعد هذه المنطقة (الشرق الأوسط) الحالة السياسية الغريبة للعالم؟ لماذا ترفض الامتثال، وتشرد عن مسار المجتمعات الحديثة؟
وفي معرض مناقشته لهذه التساؤلات ينفي أن يكون الإسلام هو السبب في ذلك ويصف الدين الإسلامي بأنه «مسحة مناهضة للاستبداد تتجلى بوضوح في كل ديار الإسلام اليوم»، لكنه مع ذلك أدان «المتأسلمين» فهم ـ على حد قوله ـ يستغلون الدين في تحقيق أهداف سياسية، ولا يخفي قلقا من وصولهم إلى الحكم في ظل انتخابات حرة ونزيهة، معتبرا أن حكام العالم العربي أكثر منهم ليبرالية.
وعلى ضوء ذلك يرى زكريا أن دعم الولايات المتحدة والغرب لتطبيق النظم الحاكمة في العالم العربي الليبرالية الدستورية دون الضغط عليها لإجراء انتخابات، سيكون له نتائج أفضل من دفعها لإجراء انتخابات قد تأتي بمن هم أكثر استبدادا وتصادما مع الغرب وقيمه، وهو يشير هنا إلى التيار الديني. وفي ضوء هذا أيضا حاول المؤلف فهم أسباب فقد نسبة كبيرة من المواطنين الأميركيين ثقتهم في النظام الحاكم، وخلص إلى أن توجه الساسة الأميركيين نحو مزيد من الديمقراطية والانفتاح، من خلال الاهتمام أكثر باستطلاع آراء الجماهير، أفضي إلى نتائج عكسية، وساهم في اختراق النظام من خلال جماعات الضغط التي باتت تدير واشنطن، وتقدر أعدادها بالآلاف، وتعمل لتحقيق مصالح متباينة، حسبما يقول المؤلف.
ويقول زكريا «إن ما نحتاج إليه في مجال السياسة ليس قدرا اكبر من الديمقراطية، وإنما قدراً أقل. ولا يعني بذلك انه يتعين إفساح الطريق أمام الطغاة والمتجبرين، وإنما بالأحرى يجب أن نتساءل لماذا تعمل مؤسسات معينة داخل المجتمع، ويقصد الأميركي، مثل نظام الاحتياطي الفيدرالي والمحكمة العليا (أعضاؤهما غير منتخبين) ـ على أكمل وجه، بينما يتسم أداء مؤسسات أخرى ـ مثل الهيئات التشريعية (منتخبة) ـ بالضعف».
وتصبح الحاجة إلى التفويض أشد إلحاحا في الدول النامية، لأن المخاطر عادة ما تكون أعظم، إذ يتعين على الحكومات أن تبدي التزاما وانضباطا عميقين فيما تنتهج من سياسات، وإلا فقدت الأسواق ثقتها فيها بسرعة، وينبغي لها أن تركز على الأمد الطويل على التنمية الحضرية، والتعليم، والرعاية الصحية، إذا كانت لا تريد لمجتمعاتها أن تنزلق نحو الركود والفوضى، مؤكداً أن السياسات المتبصرة تحقق عوائد ضخمة، أما السياسات قصيرة الأمد فتنطوي على تكاليف باهظة.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية