مد إسلامي، وانحسار علماني، هذا هو المشهد الحالي في الكثير من البلدان الإسلامية، بعد عقود من الصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني. وكانت آخر لقطات هذا المشهد هو الفوز الكبير لـ"حزب العدالة والتنمية" ذي التوجه الإسلامي، في الانتخابات البرلمانية التركية قبل أيام.
ومن بين أهم أسباب هذا الانحسار، التطرف والتصلب اللذان اتسمت بهما مواقف نسبة كبيرة من دعاة وحماة العلمانية في العالم الإسلامي، في مواجهة الدين وعلمائه ودعاته، ويرجع أيضا إلى مواصلة العلمانية تداخلها التاريخي مع الإلحاد، وازدراء الأديان والمقدسات في أوروبا بدعوى الحرية.
ومن المفارقات المثيرة، أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، كان قد أعرب بعد غزو العراق عام 2003م، عن أن النموذج التركي، هو النموذج الذي يتمنى تطبيقه في العراق، ومن بعده أعرب بعض المسئولين الأمريكيين عن ذات الأمل، ورأوه نموذجًا جيدًا يُمكن تطبيقه في بلدان العالم الإسلامي.
وكان هذا النموذج في الواقع، يزداد بعدًا عن طموحات المواطنين بالبلدان الإسلامية، ففي تركيا طُبقت العلمانية بتطرف يفوق الكثير من بلدان الغرب، وهو ما يدفع بصورة متزايدة لتآكل شعبيتها، ويجعل منها نموذجًا سيئًا لا يتمناه المسلمون لأنفسهم، خاصة وأن أغلبهم يُعانون من أنظمة علمانية جزئية، أخفقت في تحقيق أي انجاز دنيوي أو أُخروي.
ويحاول البعض (خاصة العلمانيين) تصوير صعود الإسلام عقائديًّا وسياسيًّا، على أنه نتيجة للإحباط والأزمات الاقتصادية التي يعيشها المواطنون في البلدان المسلمة، وما يدحض هذا القول، هو أن نسبة ضخمة من العائدين إلى التدين هم من أبناء الأثرياء والطبقة الوسطى (إضافة إلى الطبقات الفقيرة بلا شك)، كما أنهم ينتمون في غالبيتهم إلى مستويات تعليمية ومهنية عالية، وهذه الطبقات المقتدرة ماليًّا وعلميًّا هي التي تدعم العمل الإسلامي ماديًّا وعمليًّا.
تهاوي العلمانية
وبالممارسة العملية، فقدت العلمانية جاذبيتها والميزات التي كانت تتباهي بها وتدَّعيها لنفسها، وهي: الحياد، وحمايتها لحرية الاعتقاد والعبادة، ومرونة الفكر البشري القابل للتغيير والتطور، وأضحت الأفكار الوضعية للعلمانيين ومصالحهم الشخصية والسياسية أكثر "قدسية" عندهم من النصوص الدينية، وسُخِّرَت القدرات العسكرية والسياسية والمخابراتية للدول لحماية "مقدساتهم" هذه حتى في مواجهة خيارات الشعوب.
واضحي للعلمانية رهبان أكثر تشددًا وأصولية من رجال الدين المسيحي الكاثوليك في القرون الوسطي، الذين أدى تأثيرهم على شئون الحكم، وإذلالهم لبعض الملوك والحكام في أوروبا، ودعمهم للإقطاعيين، ومعاداتهم للعلوم، إلى تبني العلمانية، للفصل بين السياسة والدين، لكن الأمر تطور، وتدخل الساسة العلمانيون في كل شيء، حتى في شئون الأديان الأخرى، (بما فيها الإسلام الذي لا علاقة له بأخطاء قساوسة الكاثوليك)، ولم يسمح الساسة بتدخل الأديان في شئون الدولة إلا في الحدود التي تدعم مصالحهم.
وفيما لا زال العالم الغربي يثير الجدل حول مدي تقبل الكاثوليكية - وكذلك الإسلام- للديمقراطية والحرية، لا ينظر أحد إلى تحجر العلمانية وتشددها، وأنها لم تعد تستطيع التعايش مع مبادئ الديمقراطية والحرية والتعددية الثقافية، وتجاوزها حدود الحياد إلى التعدي على المقدسات، مثلما حدث في الدنمرك إبَّان أزمة الرسوم المسيئة للرسول - صلي الله عليه وسلم- وفي أزمة الحجاب في فرنسا، وكذلك في أزمات أخلاقية أثارت جدل رجال الدين المسيحي في أنحاء مختلفة من العالم، ومنها الضغط على كنائس في أوروبا وأمريكا لقبول بعض القساوسة المثليين، وكذلك الإجهاض والاستنساخ.
قد يدفع البعض بان العلمانية لا علاقة لها بكل هذه الأزمات، ولكنها في واقع الأمر المحرِّك الرئيس لكل هذا، فبعد أن تم تحجيم الدين بفصله عن الدولة، عمل العلمانيون على تقطيع آخر حلقات الاتصال بين المواطن والكنيسة بشكل مبدئي، ثم الأديان الأخرى بشكل عام، حتى يتمكنوا من حجب أي تأثير لرجال الدين على الشعوب، وكان ذلك بالتحقير من شأن الدين ورجاله، بل السخرية من الأنبياء أيضًا.
وبعد أن أضعفت تلك الصلات فعليًّا، وفقد رجال الدين في بعض البلدان تأثيرهم على الشارع، وبالتالي تأثيرهم في اتخاذ القرارات العامة، كان من السهل التحكم بقرارات معظمهم، بما فيها ما يخص الشأن الديني.
العلمانية والعالم العربي
للفظ "العلمانية" سمعة بالغة السوء لدى غالبية المواطنين في العالم العربي، يدعمها تاريخ طويل من الأخطاء العلمانية، فهي في تصورهم المعول الذي يُضرب به لتدمير الإسلام، وأنها أداة لعزل الناس عن دينهم، ويرونها في كثير من الأحيان مرادفًا للإلحاد.
وفي مصر على سبيل المثال، كان هناك غضبة ضخمة العام الماضي حين وصف رئيس وزرائها الدكتور أحمد نظيف بلده بأنها دولة علمانية، ولم تهدأ فورة الغضب إلا بعد أن نفى مسئولون رسميون هذه الصفة عن الدولة، وحاولوا تبرير ما قاله رئيس الوزراء.
بعد هذه الحادثة بشهور (في العام الحالي)، صرح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط بان النظام الحاكم يصر على فصل الدين عن السياسة، وجاء تعليقه ردًّا على لقاء بعض نواب "الإخوان المسلمون" في مجلس الشعب (البرلمان)، بوفد من أعضاء الكونجرس الأمريكي في القاهرة، ولم يحدث أي رد فعل رافض لما قاله الوزير.
وربما يكون تفسير هذا هو أن الناس هنا (في مصر) لا يرفضون فكرة فصل الدين عن السياسة، بمعني أن يتولى الشأن السياسي رجال محنكون في هذا المجال، الذي أصبح علمًا قائمًا بذاته، ويتطلب العمل به خبرة، ولكن الرفض يأتي حين يُغيَّب الدين تمامًا، ولا يُؤخذ به كمرجعية أساسية في شئون الحكم، والحياة.
وكانت الكبوة الكبرى التي لم يخرج منها العلمانيون إلى الآن هي معاملة الأديان كلها بنفس المنطق، وفي هذا الصدد يقول البروفيسور أميتاي إتزيوني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جورج واشنطن، في مقال له نشر بدورية "هارفارد إنترناشيونال ريفيو" الأمريكية: "هذا أمر حاسم أن لا تتعامل مع المعتقدات والتعليم الديني وكأنهم قطع من ثياب واحد، مفكرو التنوير كانوا ولا زالوا يفعلون ذلك" ("Religion and the State" - Issue: Spring 2006).
التجربة العلمانية الحديثة التي تمتد لنحو قرنين من الزمان كشفت عن أن المشكلة لم تكن نابعة من طبيعة الأديان في حد ذاتها، ولكنها تكمن في تعصب الإنسان لرأيه، وسعيه المستمر لأخذ مساحات اكبر من الصلاحيات والسلطة على حساب الآخرين، وكان من الأرجح أن يعالج هذا الخلل البشري، بدلا من تحييد الدين الذي يُعَدُّ أهم مصدر للقيم والمبادئ الأخلاقية في العالم وعلى مر التاريخ.
ــــــــــ
* باحث ومحلل سياسي.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية